الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فالتربية هي عملية يقوم بها كل مجتمع تجاه أفراده، لاسيما صغار السن لكي ينتج منهم أفراداً صالحين من وجهة نظره. وبناء على ذلك فإن التربية موجودة في كل مجتمع، ولكن أهدافها ووسائلها تختلف اختلافاً بيناً من مجتمع إلى آخر حسب الصورة المثالية التي يراها كل مجتمع لأفراده.
ومن هذا نعلم أن التربية من الميادين التي ينبغي أن تصبغ صبغة تامة بصبغة الأمة بالدرجة التي يحتاج النقل فيها عن الغير إلى أعلى درجات الحيطة والحذر إن لم يمنع أصلاً.
ومع ذلك فإننا نجد من كثير من المنتسبين إلى الإسلام اقتباساً، بل نقلاً مسطرياً للنظم التربوية الغربية مع أن النظم التربوية الإسلامية واضحة المعالم في كتاب الله -تعالى-، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي هدي السلف -رضي الله عنهم-.
ويمكن القول بأن قضية منهجية التعامل مع كل مرحلة سنية هي من أخطر القضايا التي شغلت اهتمام المربين، والتي اضطربت فيها آراء التربويين الغربيين اضطراباً كبيراً إلى أن تقدمت العلوم الطبية عندهم، لاسيما الطب النفسي، والتي قادتهم إلى نتائج كانت موجودة عند المسلمين منذ أربعة عشر قرناً من الزمان -بفضل الله تعالى-، إلا أن الآلة الإعلامية اليهودية والمؤسسات الدولية المنقادة لسياسة "تحمير" كل شعوب الأرض لمن يزعمون أنفسهم شعب الله المختار، قد انحرفت عمداً عن هذه الدراسات الطبية، وتبنت سياسات من شأنها فساد النشء في جميع بقاع الأرض لاسيما بلاد المسلمين.
وسواء أخذ الغرب برأي فلاسفته القدماء في مناهج التربية أو تركها إلى الأخذ بالدراسات الطبية الحديثة، أو أعرض عن هذا وذاك إلى إملاءات المؤسسات اليهودية، فإن المسلم لا يستقي مناهجه إلا من دين الله -عز وجل-، وفيما يتعلق بالمراحل العمرية، وما يناسبها من طرق تربية، لدينا وصية جامعة لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- أخذها من جملة من النصوص الشرعية والسنن النبوية يقول فيها -رضي الله عنه-:
"لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، وصاحبه سبعاً، ثم اترك له حبله على غاربه"
ورغم أن الوصية تتحدث عن نفسها، ولا تحتاج إلى مزيد بيان إلا أننا يمكن أن نعلق عليها ببعض التعليقات السريعة:
- يلاحظ أنه يظل الغرض الرئيسي في كل المراحل حتى مرحلة الملاعبة إشراب الطفل عقائد وآداب وأخلاق الإسلام، وربما بعض العبادات كالصوم والحج، ومما يروى في ذلك ملاعبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم خالد بنت خالد بن سعيد -رضي الله عنهما- وهي طفلة صغيرة، وكيف علمها دعاء لبس الثوب الجديد في ثنايا اللعب.
- حد السبع سنين مأخوذ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في الْمَضَاجِعِ) رواه أبو داود، وصححه الألباني.
فإذا كان الطفل يعلم الصلاة التي هي أعظم عبادات البدن في سن السبع، فدل هذا على أن هذا هو أول سن يصلح فيه التعليم المباشر، وأما ما قبله فيحتاج الأمر إلى التعليم غير المباشر عن طريق اللعب. وهذا ما أيدته الدراسات الطبية الحديثة في أن هذا هو سن الإدراك عند معظم الأطفال ولا عبرة بالنادر سلباً وإيجاباً.
- من رحمة الله -تعالى- بالإنسان من حيث الخلقة أن ينمو عقله تدريجياً منذ ولادته إلى أن يصل إلى سن الإدراك أو التمييز، ثم يستمر النمو إلى أن يزامن درجة النضج الأتم مع القدرة على التناسل، وهذه تحصل غالباً عند أربعة عشر عاماً.
ومن هنا يأتي التكامل بين الشرع والقدر حيث يستمر تطور النمو العقلي متزامناً مع التأديب، وهو التعليم والتوجيه المشمول بالعقاب الخفيف النادر متى احتيج إليه.
وتزخر السنة بنماذج تأديب النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن كان من أبناء أصحابه كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، والحسن، والحسين، وأسامة بن زيد، وأبي هريرة -رضي الله عنهم أجمعين- في هذه السن، حتى كان قلما ارتحل إلا وأردف واحداً من هؤلاء معه على الدابة يعلمه ويأدبه.
ومن ذلك الحديث المشهور الجامع لمعاني الإيمان بالقدر في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-.
- صح عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهْوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يجزني، ثُمَّ عرضني يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فأجازني) متفق عليه.
ودل هذا على أن التأديب متى أخذ حقه التام ربما حصل النضج الاجتماعي للطفل قبل أن يبلغ أربعة عشر عاماً، كما كان حال عبد الله بن عمر وغيره من صغار الصحابة الذين كانوا يتسابقون إلى مزاحمة الرجال في بدر وأحد.
ودل أيضاً على أن من لم تظهر عليه أمارات البلوغ وهي الإنزال والإنبات بالإضافة إلى الحيض عند النساء اعتبر بلوغه ببلوغ خمس عشر عاماً، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة الذي لا يعده بالغاً إلا إذا أتم ثمانية عشر عاماً.
ومن الجدير بالذكر أن أبا حنيفة -رحمه الله- موافق للجمهور في أنه إن ظهرت عليه علامات البلوغ قبل الثامنة عشر، بل قبل الخامسة عشر عُدَّ بالغاً، وإنما النزاع فيمن لم تظهر، والحق مع الجمهور بلا شك. وأما القول بأنه لا يعد بالغاً إلا إذا أتم ثمانية عشر عاماً ظهرت عليه علامات البلوغ أم لم تظهر فهو قول لم يقل به من علماء المسلمين فيما نعلم.
- فإذا تجاوز الصبي الرابعة عشر إلى الخامسة عشر، وصار بذلك في ميزان الشرع رجلاً كامل الأهلية حتى وإن تأخر نموه الجنسي، فينبغي على الأب أن يراعي التطور النفسي الذي طرأ على ولده، ودون أن يرفع يده من ملاحظته، ولكن يحاول أن يجعل نصائحه تبدو في صورة نصيحة الصديق لصديقه أكثر من كونها أوامر ملزمة، وعلى هذه العبارة الوجيزة تدور نصائح علماء الطب النفسي في الأسلوب الأمثل لمعاملة المراهقين.
فيا للعجب ممن عنده هذه الكنوز كيف لا يكلف نفسه عناء جلائها وإزالة الغشاوة التي تحول بينه وبين رؤيتها، بدلاً من محاولات الاقتباس من الشرق أو الغرب!!.
الكاتب: عبد المنعم الشحات
المصدر: موقع صوت السلف